خاطرة
في الغُربَةِ يَكبُرُ الحُبُّ وتَصغُرُ البُقعَة ُ، تَنْفَلِتُ مِن بَينِ أصَابِعِكَ رمَالُ الأرضِ، التي وُلِدتَ وعِشتَ فِيهَا أجْمَلَ سنِين عُمُركَ. كُلُّ هذا البُعَادِ يُحدِثُ انْكِسَاراتٍ دَاخِلَك، تَبتَعِدُ الحُدُودُ كُلَّ يَومٍ وتُرسَمُ بِشَكلٍ آخَرَ لَم تَعُدْ تَعرِفُهُ. تُجَدَّدُ الخَريطَة ُعَلى مَدَى الأيَّامِ، وفي كُلِّ عَودَةٍ،
يَتَجَدَّدُ الاغتِرَابُ وتَزيدُ الغُربَة، تَجِدُ نَفسَك في أرضٍ تَغَيَّرَ فِيهَا كُلُّ شَيءٍ. تَبحَثُ عَنِ الرَّوَائِحِ بَينَ الدُّروبِ العَتيقَةِ، عن أبسَطِ رَسمٍ يَرُدُّكَ لِمَاضٍ عَلَّهُ لا يُنكِرُكَ.
تَغَيَّرَ كلُّ شَيءٍ ولَمْ يَبقَ تُجَاهَكَ سِوَى السَّمَاء، فَلْتَرفَعْ دَعْوَاكَ، ولْتَقُلْ شَكوَاكَ، ولْتَقْبَلْ مَنفَاكَ، هُنَا... وهُنَاكَ، أنتَ الغَريبُ، عِشتَ كَالغَريبِ، ومِتَّ كالغَريبِ، وقَبلَ المَوتِ ِيَتَغَيَّرُ كُلُّ شَيءٍ فيك ويُصبِحُ غَريباً وتُصبِحُ غَريباً، كُلُّ مَا تَحمِلُه يَتَحَوَّلُ إلى حَجَرٍ بَارِدٍ، جَامِدٍ، اسمُه الغُربَة.
في الغُربَةِ يَكبُرُ الحُبُّ وتَصغُرُ البُقعَة. تَهرُبُ مِنكَ التَّضَاريس، تَتَنَكَّرُ لِرَائِحَتِكَ الأطْيَارُ، وهِيَ كَذلِكَ تَعرفُ الغُربَة َوتَعرفُ الأسفَارَ، إلاَّ أنَّهَا تَعُودُ، وأنت لا تَعُودُ، تَنزَلِقُ كُلَّ يَومٍ يَدُ الأرضِ مِن بَين يَدَيك. إنَّهَا لم تَعُدْ تُحِبُّكَ! فَكَيفَ لَهَا أن تَعشَقَ الغَريبَ؟ وتَتَأجَّجُ نِيرَانُ الشَوقُ بَينَ جَنْبَيْكَ، للتُّرَابِ الفَرِيدِ مِن نَوعِهِ فِي عَينَيكَ، وكَأنَّكَ سَتَصنَعُ مِنْهُ حَوَّاءَكَ وقِبلَتَيكَ.
فِي الغُربَة، ِيَكبُرُ الحُبُّ وتَصغُرُ البُقْعَة ُ، تَتَشَبَّثُ بِأصْغَر المَعَالِمِ كَي لا تَبتَلِعَكَ عُيُونُ الغُربَةِ، وتَمُوتُ أدَقُّ التَّفَاصِيلِ. تَجِدُ نَفسَكَ جَالِساً عَلى كَرَاسِي لا تَمتَلِكُ أحَدَهَا، بَاردَة ً، قَاسِيَةٌ ً،جَامِدَة ًولَهَا أصوَاتٌ تُوقِظُ دَاخِلَكَ رَعَشَاتُ الصَّقيع تُذكِّرُكَ بِأنَّكَ غَريبٌ، قَريبٌ دَائِماً مِنَ الرَّحِيلِ، رَحِيلٌ مَختُوم إمَّا بِمَرَضٍ فَتَّاكٍ خَلَّفَتهُ أحزَانُ الغُربَةِ، أو رَحِيلٌ على حِينِ غُرَّةٍ، بَاردٌ يَغدِرُ بِكَ نِكَايَة ً فِيكَ.
فِي الغُربَةِ، يَكبُرُ الحُبُّ بِرقَّةٍ عَنِيفَةٍ، يَحْفِرُ فِيكَ جُذوراً من الفَتكِ ، وأعمَاراً مِنَ النَّحِيبِ، يُعَلِّمُكَ الحُبُّ أن تَعشَقَ
بِصَمتٍ وفِي صَمتٍ يُشبِهُ المَوتَ البَطِيءَ. يَكبُرُ دُونَ أن تَشعُرَ، وتَكبُرُ النِّدَاءَاتُ النَّائِمَة ُفي القَلبِ مِن عَهدٍ بَعِيدٍ، نِدَاءَاتُ الوَطنِ الذي خَرَجتَ مِنهُ لِيَسكُنَ هُوَ رُوحَك، فَتَتَلاَشَى مَعَ تَلاشِي المَغِيبِ.تَبحَثُ عن نُقطَةٍ في فَضَاءَاتِهِ
تَملِكُهَا كَي تَنَالَ شَهَادَةَ اعْتِرَافٍ بانتمائك الدَّاخِلِي والحَمِيمِي لَهُ، وهِيَ الأخرَى تَتَلاشَى، فَالأرضُ لا تُرَحِّبُ
بِكَ، وكَيفَ يَكُونُ وأنت الغَريبُ؟ لَم يَعُدْ لَكَ سِوَى أشوَاقَكَ
القَدِيمَةِ وذِكرَيَاتَك، لَكَ أنْ تَغُوصَ فِيهَا كَحَالِمٍ، ولَيسَ لَكَ أْنْ تَبحَثَ عَن إحيَاءِهَا، فَهِيَ مَيتَة ٌ، كُلَّمَا حَاوَلتَ إيقَاظَهَا،
أحسَستَ بِآلاَمٍ طَاغِيَّةٍ ومُحبِطَةٍ.
كَفَقَاقِيعَ تَتَلألأ عَلى ضَوءِ النَّهَار، تَتبَعُ الذَّكرى لِتُمسِك
بِهَا، فَتَحمِلُهَا الريحُ إلى البَعيدِ، وتَقِفُ أنت مَشدُوهاً، نَاظِراً إلى السَّمَاءِ، تُعَايِنُ ابْتِعَادَ الفَقَاقِيعِ، بَل انْدِثَارهَا تَمَاما.ً مَا أجمَلَ الألْوَانَ! ولَكِنَّهَا اخْتَفَتْ.